فصل: النوع السابع عشر في التكرير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **


  الضرب الرابع من كتاب أو خطبة أو قصيدة

وهذا أصعب الضروب الأربعة طريقا وأضيقها بابا لأنه يتفرع إلى أساليب كثيرة من المعاني

وأرباب النظم والنثر يتفاوتون فيه وليس الخاطر الذي يقذف بالدرر في مثله إلا معدوم الوجود ومثاله ومثال الإيجاز مثال مجمل ومفصل وقد تقدم القول بأن الإيجاز والإطناب و التطويل بمنزلة مقصد يسلك إليه ثلاثة طرق وقد أوردت ههنا أمثلة لهذه الأساليب الثلاثة وجعلتها على هيئة المقصد الذي تسلك إليه الطرق الثلاثة‏.‏

فمن ذلك ما ذكرته في وصف بستان ذات فواكه متعددة فإذا أريد وصفه على حكم الإيجاز

قيل‏:‏ فيه من كل فاكهة زوجان وهذا كلام الله تعالى وقد جمع جميع أنواع الفاكهة بأحسن لفظ

وأخصره وإذا أريد وصف ذلك البستان على حكم الإطناب قيل فيه ما أذكره وهو فصل من

كتاب أنشأته وهو جنة علت أرضها أن تمسك ماء و غنيت بينبوعها أن تستجدي سماء

وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة وتربة منجبة وما كل تربة توصف بالنجابة ففيها المشمش الذي

يسبق غيره بقدومه ويقذف أيدي الجانين بنجومه فهو يسمو بطيب الفرع والنجار ولو نظم في

جيد الحسناء لاشتبه بقلادة من نضار وله زمن الربيع الذي هو أعدل الأزمان وقد شبه بسن

الصبا في الأسنان وفيها التفاح الذي رق جلده وعظم قده وتورد خده وطابت أنفاسه فلا

بان الوادي ولا ورنده وإذا نظر إليه وجد منه حظ الشم والنظر ونسبته من سرر الغزلان أولى

من نسبته إلى منابت الشجر وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة وأكثرها ألوان زينة وأول

غرس اغترسه نوح عليه السلام عند خروجه من السفينة فقطفه يميل بكف قاطفه ويغري

بالوصف لسان واصفه وفيها الرمان الذي هو طعام وشراب وبه شبها نهود الكعاب ومن

فضله أنه لانوى له فيرمى نواه ولا يخرج اللؤلؤ والمرجان من فاكهة سواه وفيها التين الذي أقسم الله به تنويها بذكره واستتر آدم عليه السلام بورقه إذ كشفت المعصية من ستره وخص بطول الأعناق فما يرى بها من ميل فهو نشوة من سكره وقد وصف بأنه راق طعما و نعم جسما وقيل هذا كنيف مليء شهدا ملئ علما وفيها من ثمرات النخيل ما يزهى بلونه وشكله ويشغل بلذة منظره عن لذة أكله وهو الذي فضل ذوات الأفنان بعرجونه ولا تماثل بينه وبين الحلواء هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وفيها غير ذلك من أشكال الفاكهة وأصنافها وكلها معدود من أوساطها لا من أطرافها ولقد دخلتها فاستهوتني حسدا ولم أصاحبها على قوله لن تبيد هذه أبدا‏.‏

فهذا الوصف على هذه الصورة يسمى إطنابا لأنه لم يعر عن فائدة وذاك الأول هو الإيجاز لأنه

وأما التطويل فهو أن تعد الأصناف المذكورة تعدادا من غير وصف لطيف ولا نعت رائق

فيقال‏:‏ مشمش وتفاح وعنب ورمان ونخل وكذا وكذا‏.‏

وانظر أيها المتأمل إلى ما أشرت إليه من هذه الأقسام الثلاثة في الإيجاز والإطناب والتطويل

وقس عليها ما يأتي منها‏.‏ وسأزيد ذلك بياناً بمثال آخر فأقول‏:‏

قد ورد في باب الإيجاز كتاب كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون رحمه الله تعالى يخبره بهزيمة عيسى بن ماهان وقتله إياه وهو كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يدي وخاتمه بين يدي وعسكره مصرف تحت أمري والسلام ‏,‏

وهذا كتاب جامع للمعنى شديد الاختصار‏.‏

وإذا كتب ما هو في معناه على وجه الإطناب قيل فيه ما أذكره وهو ما أنشأته مثالا في هذا

الموضع ليعلم به الفرق بين الإيجاز والإطناب وهو‏:‏ أصدر كتابه هذا وقد نصر بالفئة القليلة على الفئة الكثيرة وانقلب باليد الملأى والعين القريرة وكان انتصاره بجد أمير المؤمنين لا بحد نصله والجد أغنى من الجيش وإن كثرت أمداد خيله ورجله وجيء برأس ماهان وهو على جسد غير جسده وليس له قدم فيقال إنه يسعى بقدمه ولا يد فيقال إنه يبطش بيده ولقد طال

وطوله مؤذن بقصر شأنه وحسدت الضباع الطير على مكانها منه وهو غير محسود على مكانه

وأحضر خاتمه وهو الخاتم الذي كان الأمر يجري على نقش أسطره وكان يرجو أن يصدر كتاب الفتح بختمه فحال ورود المنية دون مصدره وكذلك البغي مرتعه وبيل وصرعه جليل وسيفه وإن مضى فإنه عند الضرب كليل وقد نطق الفأل بأن الخاتم والرأس مشيران بالحصول على خاتم الملك ورأسه وهذا الفتح أساس لما يستقبل بناؤه ولا يستقر البناء إلا على أساسه والعساكر التي كانت على أمير المؤمنين حربا صارت له سلما وأعطته البيعة علما بفضله وليس من تابع تقليدا كمن تابع علما وهم الآن مصروفون تحت الأوامر ممتحنون بكشف السرائر مطيفون

باللواء الذي خصه الله باستفتاح المقالد واسيطاء المنابر وكما سرت خطوات القلم في أثناء هذا القرطاس فكذلك سرت طلائع الرعب قبل الطلائع في قلوب الناس وليس في البلاد ما يغلق بمشيئة الله بابا ولا يحسر نقابا وعلى الله إتمام النعم التي افتتحها وإجابة أمير المؤمنين إلى

مقترحاته التي اقترحها والسلام ‏,‏ وهذا الكتاب يشتمل على ما اشتمل عليه كتاب طاهر بن الحسين من المعنى إلا أنه فصل ذلك الإجمال‏.‏

ولو كتبت على وجه التطويل الذي لا فائدة فيه لقيل‏:‏ أصدر كتابه في يوم كذا من شهر كذا

والتقى عسكر أمير المؤمنين وعسكر عدوه الباغي وتطاعن الفريقان وتزاحف الجمعان وحمي

القتال واشتد النزال وترادفت الكتائب وتلاحقت المقانب وقتل عيسى بن ماهان واحتز

رأسه وقطع ونزع الخاتم من يده وخلع وترك جسده طعاما للطيور والسباع والذئاب والضباع

وانجلت الوقعة عن غلب أمير المؤمنين ونصره وخذلان عدوه وقهره والسلام‏.‏

فهذا الكتاب يشتمل على تطويل لا فائدة فيه لأنه كرر فيه معاني يتم الغرض بدونها وذكر ما

لا حاجة إليه في الإعلام بالواقعة‏.‏

فانظر إلى هذه الكتب الثلاثة وتأملها كما تأملت الذي تقدمها‏.‏

وبعد ذلك إني أورد لك كتابا وتقليدا يوضحان لك فائدة الإطناب أما الكتاب فإنه كتاب

كتبته عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى إلى ديوان الخلافة ببغداد يتضمن فتح بيت المقدس واستنقاذه من أيدي الكفار وذلك في معارضة كتاب كتبه عبد

الرحيم بن علي البيساني عنه وكان الفتح في السابع والعشرين من شهر رجب من سنة ثلاث

وثمانين وخمسمائة خلد الله سلطان الديوان العزيز النبوي وجعل أيام دولته أترابا ومناقب

مجدها هضابا وزادها على مرور الأيام شبابا وأوسعها توشية وذهابا إذا أوسع غيرها تلاشيا

وذهابا ومنحها في الدنيا والآخرة عطاء وفاقا لا عطاء حسابا ومثل جدودها في عيون

الأعداء شيئا عجابا وأراهم منها وراءهم في اليقظة إرهابا وإرعابا وفي المنام إبلا صعابا

تقود خيلا عرابا لو جمعت العصور في صعيد واحد لكان هذا العصر عليها فاخرا وفاز

بسبق أوائلها وإن جاء آخرا وليس ذلك الا لخطوته بالدولة الناصرية التي كسته حبرا وقلدته

دررا ودونت له من المحامد سيرا و جعلت في كل ناحية من وجهه شمسا وقمرا وقيض الله

لها من الخادم وليا يوصل يومه في طاعتها بأمسه ولا يرى إلا ومن نفسه في خدمتها رقيب على نفسه وطالما سعى بين يديها بمساع نغص بأخبارها محافل القوم ويقال له فيها‏:‏ ما ضرك ما صنعت بعد اليوم وقد سلفت منها آيات تتمايل في أشباهها وأضرابها واستؤنف لها الآن

واحدة تدعى بأم كتابها وهي فتح البيت المقدس الذي تفتحت له أبواب السماء وكثرت

بأحاديث مجده كواكب ظلماء واسترد حق الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماء

ومن أحسن ما أتي به أنه آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى وأطال منه كل ما قصرته يد الكفر

وكانت هي الطولى وبه صح لهذا البيت معنى اسمه وانتقل إلى الطهارة المنجدة والغائرة وكان

مركزا لدائرتها فغادره وهو طرف من أطراف الدائرة ولما شارفه نظر منه إلى ظلة من الظلل

ورأى بلدا قد استقر على متن الجبل مثل انعطاف الحبوة على الظهر والمسالك إليه مع ذلك ذات تعاريج ومعارج وهي ضيقة مستوعرة يطلق عليها اسم الطرق ولا يطلق عليها اسم المناهج فلما رآه قال‏:‏ هذا أمنية لمن يرى وعلم حينئذ أن كل الصيد في جوف الفرا الا أن لسان حاله خاطبه وهو أفصح الخطاب وقال‏:‏ امدد يدك فليس دونها من حجاب وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعة وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعة وما يمنع رقاب البلاد بكثرة السواد ولا يحمى بعوالي الأسوار بل بعوالي الصعاد وفي يوم كذا وكذا خيم المسلمون عقد داره ونزلوا منه نزول الجار إلى جانب جاره ثم ارتادوا موقفا للقتال وإن لم يكن هناك موقف يقرب مناله ولا يتسع محاله واتفق الرأي على لسان المنجنيق في خطبة عقيلية أبلغ خطابا وأدنى من المطلوب طلابا وأنه إذا ضرب بعصاه الحجر انبجست عيون أهله دماء كما انبجست عيون الحجر ماء هذا والعزائم تنظر إلى هذا الرأي نظر المستجهل وتصد عنه صدود المستعجل وتقول‏:‏ ما باردتياد السهل تملك الصعاب ومن ابتنى السيف صرحا لم ينأ عنه بلوغ الأسباب والحديد لا يفلح إلا بالحديد والركن الشديد لا يصدم إلا بركن شديد فعندها صمم الخادم أن يلقى البلد مواثبا لا مواربا وأن يجعل للزحف جانبا وللمنجنيق جانبا ونوى أن يبدي صفحة وجهه أمام الناس وتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الاتقاء به إذا اشتد البأس ولا شك أن قلوب الجيوش بمنزلة قلوبها وأن النفاذ لأسنة الرماح لا لكعوبها ولا يشتفي من الوغى إلا من كان طرفه أمام طرفه ومن وقف خلف جنوده فقد جعل عزائمها من خلفه ولما وقع الزحف صورع البلد صراعا بعد أن قورع قراعا ثم هز هزة طوته بيمنها ونشرته بشمالها وأذاقته العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من نكالها وبدون ذلك يكون عذرك أديمه وعطف شكيمه ولم يكن قتاله بالسهام التي غايتها أن تصف أجنحتها للمطار وتنال بكلومها

من فوق الأسوار بل بالسيوف التي إذا جالدت بلدا أخذت بكظمه وتوغلت في هجمه وأغنت بسرعة خطواتها إليه عن المنجنيق وإبطاء هدمه والسيف ليس بمرتو من النفس التي تظل طائشة عند لقائها جائشة عند استيفائها فالقلوب توصف بأنها تجيش إذا كانت أعدادا

والنفوس لا تجيش إلا إذا كانت ثمادا وما يستوي وجوه الأقران في إقدامها وإحجامها فمنها المظلم إذا رابها الروع بإشراقها ومنها المشرق إذا شابها الروع بإظلامها وكانت وجوه المؤمنين

في هذا المقام أحظى بلباس الإشراق وأتم أبدرا والبدور لا يكون تمامها في المحاق فما منهم إلا

من عرض نفسه ليوم العرض ومشى إلى جنة عرضها السموات والأرض حتى اتسع المكر

وضاق بأعداء الله المقر وحرقت أوعار الخنادق وصار الرجال لمنطقة السور كالمناطق ولم

يستشهد منهم إلا عدد يسير لا تدخله لام التعريف وكانت أجنحة الملائكة مطيفة بهم فأكرم

المطاف به وبالمطيف وقد أسعد الله أولئك بالشهادة التي هي الفوز الأكبر وقرنها بإدناء

مضاجعهم من الأرض المقدسة التي هي أرض المحشر فما يسرهم أن يعودوا إلى الدنيا إلا

للاستزادة من ثواب الجهاد وأيسر ذلك أن أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق من ثمار الجنة إلى يوم المعاد ولما رأى الكفار أن صليبهم قد صار خوارا وأن زئيرهم قد انقلب خوارا

أذعنت أيديهم باستسلامها وصانعت بالمال عن الرقاب واسترقاقها وبالبلد عن النفوس

وحمامها فأبى السيف أن يترك رقابا تغذي بأكلها ويحل من عشقها على مداومة وصلها وذكر

الخادم أن سلف هؤلاء انتزاع هذا البلد قسرا وفتك بمن كان به من المسلمين غدرا وذلك ثأر

ذخره الله لك حتى تحظى في الآخرة بثوابه وتتجمل في الدنيا بزينة أثوابه والمسلم أخو المسلم

يأخذ بدمه وإن تطاولت أمداد السنين على قدمه فيا بعد عهد هذا الثأر من ثائره ويا طيب

خبره عند سامعه وحسن أثره عند ناظره ولما تحقق العزم على ذلك أشار ذوو الرأي بقبول

الفدية المبذولة وألا يحمل العدو على ما ليست نفسه عليه بمحمولة فإن النقد إذا أخرج صار

ذا أنياب وأظفار واستضرى حتى يلتحق بالسباع الضوار وهؤلاء إذا رأوا عين القتل تجردوا

للقتال وركبوا الأهوال للنجاة من الأهوال ومن يدع إلى خطة رشد فليقبلها ومن أنشط له عقل

الأمور فلا يعقلها وعلى كل حال فإن الفدية للمسلمين أرغب وأموال يتقوى بها على العدو خير

من دماء تذهب هذا وبالبلد من أسارى المسلمين من حياة أحدهم بحياة كل نفس ومن

حرمته عند الله مما طلعت عليه الشمس ولا يوازى فتحه عنوة أن يتعدى إليهم أضراره ولا

شك أنهم يعاجلون بالقتل قبل أن تدخل أقطاره فرأى الخادم عند ذلك أن الرأي مشترك وأن له

معتركا كما أن السيف له معترك وتقرر تسليم البلد ودموع أهله قد خضبت أحداقها وأقرحت

آماقها ولم تطب أنفسهم بفراق قمامه حتى كادت الهام تفارق أعناقها فعلى حب ذلك التراب

تقوم قيامتهم وتشيل نعامتهم ولطالما ابتهلوا عنده أيام الحصار واستنصروه فلم يحظوا منه

بمعونة الانتصار وكيف يرجى النصر من معبود تقر شيعته بقتله أم كيف يدفع عن غيره من

كان هو مبتلى بمثله وهذه عقول سخيفة نفذ فيها كيد شيطانها وأخفى عنها محجة الحق على

وضوح بيانها ولقد كان يوم التسليم عريض الفخار زائد العمر على عمر أبويه من الليل

والنهار واشتق من اسمه معنى السلامة للمسلمين والهلاك للكفار وزاده فخرا إلى فخره أنه

وافق اليوم المسفر عن ليلة المعراج النبوي الذي كان في تلك الأرض موعده ومن صخرتها

مصعده وذلك هو الإسراء الذي ركب إليه ظهر البراق واستفتح له أبواب السبع الطباق و لقي

فيه الأنبياء على اختلاف درجاتهم فظفر خير ملقى بخير لاق وبركة ذلك اليوم سرت إلى هذا

فأطالت من شهرته وضمنته نصرة الدين الحنيف الذي لله عناية بنصرته وجعلته يؤرخ بفتحه

كما أرخ النبي صلى الله عليه وسلم بدار هجرته وإذا أنصف واصفه قال‏:‏ إنه لليوم البدري في

اقتراب النسب وإنه العجيبة التي لم تجفل عنها الأيام في صفر وإنما أجفلت عنها في رجب فما

أكثر الفائز فيه والمغبون والمسرور والمحزون فيمن جد راكب ومن جد راجل ومن عز قادم

وذل راحل ولطالما جد الخادم في السعي له وأبصار العدا تزلقه وألسنتهم تسلقه وما منهم إلا

من أكثر الشناعة بأن ذلك السعي للاستكثار من البلاد والله يعلم أنه لم يكن إلا للاستكثار من

موارد الجهاد لا جرم أن صدق النية كان له عقبى الدار وتلك الأقوال الكاذبة كان لها عقبى

البوار ويوم هذا الفتح يفتقر قبله إلى أيام تجلو بياضه عن سوادها ويلقح لها بطون المساعي

حتى يكون هي نتيجة ميلادها ولما ظفر به الخادم لم يكن لأهل النجامية فيه قول يرد كذابه ولا

يقبل صوابه والشهب الطالعة على ذوات السروج أصدق نبأ من الشهب الطالعة من ذوات

البروج على أنهما وإن اتفقا رجما فإنهما يختلفان علما فعلم هذه يسأل عنه ثغر الأعناق وعلم

هذه يسأل عنه بطون الأوراق ولما دخل البلد وجد به أمما لولا أن ضربت عليهم الذلة لدافعوا

المنايا مكاثرة وغالبوا السيوف مصابرة وهم طوائف مختلفو الألسنة والألوان وإن قيل إنهم أناسي

فإن صورهم صور الجان ومنهم طائفة استشعرت حبس نفوسها وفحصت الشعر عن

أوساط رءوسها وتوحشت بالرهبانية حتى ارتاعت العيون من أشكالها ولبوسها ولما رأوا

طليعة الإسلام داخلة عليهم أعلنوا بالجؤار واصطرخوا جميعاً كما يصطرخون غدا في النار

وزادهم غيظا إلى غيظهم أنهم رأوا الصلاة قائمة وقد صار الناقوس أذانا وكلمة الكفر

إيمانا وأقيمت الجمعة وهي أول جمعة حظي الأقصى بمشهدها وحضرتها الأمة الإسلامية

بأحمرها وأسودها فمن باك بدمعة سروره الباردة ومن مجيل نظره في نعمة الله الواردة ومن

شاكر للزمن الذي أبقاه إلى هذا اليوم الذي كل الأيام له حاسدة من كان ولده تقدم قبله أو بعده

فكأنه لم يولد وكانت هذه الجمعة في رابع شعبان وهو الشهر الذي جعله الله طليعة لشهر

الصيام وليلة نصفه هي الليلة المعروفة بإحياء قيامها إلى حين وفاه شخص الظلام والتي يغفر

فيها لأكثر من شعر غنم كلب من ذوي الذنوب والآثام وجيء باللواء الأسود فركز من المنبر في أعلاه ونطق لسان حاله فقال‏:‏ من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه فأنا مولاه ولم

يكن لسان الخطيب بأفصح بياناً من لسانه غير أن هذا يزهى ببلاغ موعظته وهذا يزهى بعزة

سلطانه ولما ذكرت سمات الخلافة المعظمة أتبعها الناس بالدعاء الذي ملأ المسجد بعجيجه

وسبق الكرام الكاتبون بزميله إلى السماء ووشيجه وكان اليوم فصلا والموقف حفلا وذلك

الدعاء فرضا لا نفلا ولا ينتهي النصف إلى ما شوهد بالبلد من الآثار العجيبة التي تستلبث

العجلان وتستحلب الأذهان وتستنطق الألسنة بالتسبيح لله الذي فطر الإنسان ومن جملة ذلك

ما تبوهي في حسنه من البيع والصوامع ذوات الأبنية الروائع التي روضت بالزخارف ترويض

الأزهار ورفعت معاقدها حتى كادت النجوم توحي إليها بالأسرار وما منها إلا ما يقال‏:‏ إنه إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ولقد ألان الله لهم الحجارة حتى تخيروا في توسيعها بضروب الاختيار وجعلوها أعاجيب للأسماع والأبصار وقيل فيها‏:‏ هذه روضات جنان لا

أفنية ديار هذا إلى غيره مما وجد من معبودات القوم الموصوفة بأنها آلة الصلب اللاتي من ذوات النصب وأكثر ذلك وجد في المسجد موضوعا وعلى قبته مرفوعا فأنزلت على قرونها واستن بسنة رسول الله صلى اله عليه وسلم في طعن عيونها واستوطن المؤمن مكان الكفور وبدلت الظلمات بالنور وقالت الصخرة‏:‏ الآن جمع بيني وبين الحجر الأسود لخاطب الإسلام والجمع بين الأختين في هذا الأمر من الحلال لا من الحرام وقال الأقصى‏:‏ سبحان الذي أسرى إلي بجنده كما أسرى بعبده وأعاد لي عهود الفتح الأول بهذا الفتح الذي أتى من بعده وعود الذاهب أرجى لدوام أحقابه وخلود الإنسان لا يكون إلا في مآبه وهذا هو الخطب الذي جدد للإسلام عهود ابن خطابه رضي الله عنه إلا أن مستنقذ الطريدة أولى بها من صاحبها ولئن غصبتها يد غالبة فقد جاء الله باليد التي غصبتها من غاصبها هذا ولم يستنقذها الخادم إلا بإنضاء سلاح أنفته الوقعة الأولى التي استأصلت حماة البلاد واسباحت أغيالها بقتل الآساد فكانت لهذا

الفتح عنوانا ولتقرير أصوله بنيانا ولم ينج بها من طواغيت الكفر إلا طاغية ترابلس فإن

السيوف أسأرته وبفؤاده قلق من أوجالها وفي عينه دهش من أهوالها وقد قرن الله هذا الفتح

ببشرى موته وكفى المسلمين مؤنة الاهتمام لفوته ففر من الوقعة ولم ينج بذلك الفرار واعتصم

بذات جداره فقتله الخوف من وراء الجدار ولا فرق بين قتيل خوف السفار وبين قتيل

الشفار ولقد فر من المكروه إلى مثله لكنه انتقل من ميتة عزه إلى ميتة ذله وكذلك آثار الخادم

في أعداء الله فهم هلكى بسيفه في مواقف الطراد فإن فروا فبخوفه على جنوب الوساد وبعد

هذه فهل يمترون في أن دمائهم قد استجابت لمراده وأن سواء لديه من أمكن منها في دنوه ومن

امتنع منها في بعاده وكل ذلك مستمد من الاستنصار بعناية الديوان العزيز التي من شأنها أن

تجعل الرؤيا حقا وأحاديث الأمال صدقا وتقرب بعيدات الأمور حتى تجعل الشرق غربا

والغرب شرقا فهذا الفتح منسوب إليها وإن كان الخادم هو الساعي في تسهيله والمجاهد بنفسه

وماله في سبيله فعلى عطف دولتها ترقم أعلامه و في أيامها تؤرخ أيامه ولو أبيح للقم الخيلاء

في مقام المقال كما أبيح لصاحبه في مقام القتال لاختالت مشيته في هذا الكتاب ولقال

وأسهب فليس الإكثار ههنا من الإسهاب لكنه منعه من ذلك أن يكون ممن فخر بعمله فأبطله

وأرسل خطابه إلى الديوان العزيز فلم يقبضه بالأدب حين أرسله وقد ارتاد من يبلغ عنه

مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها و

يكون مكانه من النباهة كريما كمكانها وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بياناً مؤهل لإيداع

حسانها والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحبها في تجريح الرجال وعوالي

إسنادها مأخوذة من طرق العوال والأيام والليالي رواة فما الظن برواية الأيام والليال وستتلو

هذه الأخبار الصادقة بمشيئة الله أخبار مثلها صادقة وما دامت السيوف ناطقة في يد الخادم

فالألسنة عنها ناطقة وللآراء العالية مزيد العلو إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما التقليد فإنه تقليد أنشأته لمنصب الحسبة وهو أما بعد فقد جعل الله جزاء التمكين في

أرضه أن يقام بحدود فرضه ونحن نسأله التوفيق لهذا الأمر الذي ثقل حمله وعدم أهله فقد

جيء بنا في زمن أصبح الناس فيه سدى وعاد الإسلام فيه غريبا كما بدا وهو الزمن الذي

كثرت فيه أشراط اليوم الأخير وغربلت فيه الأمة حتى لم يبق إلا حثالة التمر والشعير ومن أعم ما نقرر بناءه ونقدم عناءه ونصلح به الزمن وأبناءه أن نمضي أحكام الشريعة المطهرة على ما قررته في تعريف ما عرفته وتنكير ما نكرته ومدار ذلك على النظر في أمر الحسبة التي تتنزل منه بمنزلة السلك من العقد والكف من الزند وقد أخلصنا النية في ارتياد من يقوم فيها

ويكفيها ويصطفى لها ولا يصطفيها وهو أنت أيها الشيخ الأجل فلان أحسن الله لك الأثر

وصدق فيك النظر فتولها غير موكول إليها بل معانا عليها‏.‏ واعلم أن الناس قد أماتوا سننا

وأحيوا بدعا وتفرقوا فيما أحدثوه من المحدثات شيعا وأظلم منهم من أقرهم على أمرهم ولم

يأخذ بقوارع زجرهم فإن السكوت عن البدعة رضا بمكانها وترك النهي عنها كالأمر

بإتيانها ولم يأت بنا الله تعالى إلا ليعيد الدين قائما على أصوله صادعا بحكم الله فيه وحكم

رسوله‏.‏

ونحن نأمرك أن تتصفح أحوال الناس في أمر دينهم الذي هو عصمة مالهم وأمر معاشهم الذي

يتميز به حرامهم عن حلالهم فابدأ أولاً بالنظر في العقائد واهد فيها إلى سبيل الفرقة الناجية

الذي هو سبيل واحد وتلك الفرقة هي السلف الصالح الذين لزموا مواطن الحق فأقاموا وقالوا

ربنا الله ثم استقاموا ومن عداهم شعب دانوا أديانا وعبدوا من الأهواء أوثانا واتبعوا ما لم

ينزل به الله سلطانا ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم

أعمالكم فمن انتهى من هؤلاء إلى فلسفة فاقتله ولا تسمع له قولا ولا تقبل منه صرفا ولا عدلا

وليكن قتله على رءوس الأشهاد ما بين حاضر وباد فما تكدرت الشرائع بمثل مقالته ولا

تدنست علومها بمثل أثر جهالته والمنتمي إليها يعرف بنكره ويستدل عليه بظلمة كفره وتلك

الظلمة تدرك بالقلوب لا بالأبصار وتظهر زيادتها ونقصها بحسب ما عند رائيها من الأنوار

وما تجده من كتبها التي هي سموم ناقعة لا علوم نافعة وأفاعي ملففة لا أقوال مؤلفة فاستأصل

شرفتها بالتمزيق وافعل بها ما يفعله الله بأهلها من التحريق ولا يقنعك ذلك حتى تجتهد في تتبع

آثارها والكشف عن مكامن أسرارها فمن وجدت في بيته فليؤخذ جهارا ولينكل به

إشهارا وليقل‏:‏ هذا جزاء من استكبر استكبارا ولم يرج لله وقارا وأما من تحدث في القدر

وقال فيه بمخالفة نص الخبر فليس من ربقة الإسلام وإن تنسك بمداومة الصلاة والصيام قال

النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ القدرية مجوس هذه الأمة ‏"‏ والمراد بذلك أنهما ماثلوا بين الله والعبد والضياء والظلمة فعلاج هذه الطائفة أن تجزى بأن تخزى فليقابل جمعها بالتكسير واسمها بالتصغير ولتنقل إلى ثقل الحدود عن خفة التعزير ومن كان منها ذا مكانة نابهة فليهبط أو شهادة عادلة فليسقط وكذلك يجري الحكم فيمن قال بالتشبيه والتجسيم أو قال بحدوث القرآن

القديم‏.‏ ومن ملحدي القرآن فرقة فرقت بين المعنى والخط وفرقة قالت فيه بالشكل والنقط وكل هؤلاء قوم خبثت سرائرهم وعميت أبصارهم وعظمت عند الله جرائمهم فخذهم بالتوبة التي تطهر أهلها وتجب ما قبلها وليست التوبة عبارة عن ذكرى اللسان والقلب لاه في قبضة النسيان

بل هي عبارة عن الندم على ما فات واستئناف الإخلاص فيما هو آت وقد جعل الله التائب

من أحبابه ووصفه في مواضع كثيرة من كتابه ومن فضله أن الملائكة يستغفرون لذنبه ويشفعون له إلى ربه فإن أبت هذه الطوائف إلا إصرارا ولم يزدهم دعاؤك إلا فرارا فاعلم أن الله قد طبع على قلوبهم طبعا وألحقهم بالذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره وكانوا لا يستطيعون سمعا فخذهم عند ذلك بحد الجلد فإن لم ينجع فبحد ذوات الحد فإن هذه أمراض عمى لا ترجى لها الإفاقة ولا تبريء منها إلا الدماء المراقة‏.‏

وأما الفرقة المدعوة بالرافضة التي هي لما رفعه الله خافضة فإنهم أناس ليس لهم من الدين إلا

اسمه ولا من الإسلام إلا رسمه وإذا نقب عن مذهبهم وجد على العصبية موضوعا ولغير ما

شرعه الله ورسوله مشروعا ذبُّوا عن علي رضي الله عنه فأسلموه وأخروه إذ قدموه وهؤلاء

وضعوا أحاديث فنقلوها وأولوا على أولوها فتبع الآخر منهم الأول على غمة وقالوا‏:‏ إنا وجدنا

آبائنا على أمة وههنا غير ما ذكرناه من عقائد محلولة ومذاهب غير منقولة ولا مقبولة

وبالهدي يتبين طريق الضلال وبالصحة يظهر أثر الاعتلال ولا عقيدة إلا عقيدة السنة والكتاب

ولا دين إلا دين العجائز الماء والمحراب‏.‏

وإذا فرغنا من الوصية بالأصول التي هي للدين ملاك فلنتبعها بالفروع التي هي له مساك وأول

ذلك الصلاة وهي في مباني الإسلام الخمس أوكد خمسه وآخر ما وصى به رسول الله صلى

الله عليه وسلم عند مفارقة نفسه ومن فضلها أنها العمل الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ولا

عذر في تركها لأحد من الناس فيقال إنه يعذر فاجمع الناس إليها واحملهم عليها ومرهم

بالاجتماع لها في المساجد وناد فيهم بفضيلة صلاة الجماعة على صلاة واحد وراقبهم عند

أوقات الأذان في الأسواق التي هي معركة الشيطان فمن شغل بتثمير مكسبه ولها عنها بالإقبال

على لهوه ولعبه فخذه بالآلة العمرية التي تضع من قدره وتذيقه وبال أمره ولا يمنعك عن ذي

هيبة هيبته ولا عن ذي شيبة شيبته فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم

الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ومن مهمات الصلاة يوم الجمعة الذي

هو في الأيام بمنزلة الأعياد في الأعوام وفيه الساعة المخصوصة بالدعاء المجاب التي ما صادفها عبد إلا ظفر بالطلاب فمر الناس بابتداره في البواكر والفوز فيه بقربان البدنات الأخاير فإنه اليوم الذي تطلع الشمس على مثله وبه فضل هذا الدين على أهل الكتاب من قبله فهو واسطة عقد الأيام السبعة ولاشتماله على مجموع فضلها سمي يوم الجمعة وفي الأعوام مواسم لصلوات مخصوصة كالتراويح في شهر رمضان والرغائب في أول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان فلتملأ المساجد في هذه المواسم التي تكثر فيها شهادات الأقلام في كتب الطاعات ومحو الآثام ومن حضرها وليس همه إلا أن يمر بها طروقا ويواعد إليه أخدانه رفثا وفسوقا فهؤلاء هم الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فابعث عليهم قوما يسلبونهم سلبا

ويوجعونهم ضربا ويملئون عيونهم مهابة وقلوبهم رعبا فبيوت الله مطهرة من هذه الأدناس ولم

وههنا عظيمة عضيهة وفاحشة يفقه لها من ليست نفسه بفقيهة وهي الربا فإنه قد كثر أكله

وتظاهر به فاعله وقال فساق الفقهاء بتأويله وتوصلوا إلى شبهة تحليله ولا يتسارع إلى ذلك إلا

من أعمى الله قلبه ومحق كسبه قال النبي ‏)‏‏"‏ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمدوها

وباعوها وأكلوا أثمانها ‏"‏ ونحن نأمرك أن تشمر في هذا الأمر تشميرا يرهبه الناس ولا تدع ربا

حتى تضعه وأول ربا تضعه ربا العباس فتأديب الكبير قاض بتهذيب الصغير والأسوة بالرفيع

خلاف الأسوة بالنظير وجل معاملة الربا تجري في سوق الصرف الذي تختلف به النقود

وتفترض فيه العقود ويخاض في نار نيره إلى النار ذات الوقود وبه قوم أوسعوا عيون الموازين

غمزا وألسنتها همزا ولمزا وأصبح الدرهم والدينار عندهم بمنزلة الصنمين اللات والعزى ولا يرى منهم إلا من الحرص مفاض على ثيابه وقد جمع بني المعرفة بالحرام والهجوم على ارتكابه فعدل ميل هؤلاء تعديلا وتخولهم على مرور الأيام تخويلا واعلم أنك قد وليت من الكيل والميزان أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة فباشرهما بيدك مباشرة الاختيار والاختبار ولا تقل أهلهما عثرة فإن الإقالة لا تنهى عن العثار وكل هؤلاء من سواد الناس ممن لم يزك غرسه ولا فقهت نفسه وليس همه إلا فرجه وضرسه فخذهم بآلة التعزيز التي هي نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى ومن آثارها أنها ترج أرض الرأس رجا وتفرج سماءه فرجا ويسلك بصاحبه وقد كثر في الأسواق الخلابة والنجس وتلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتنفيق السلعة باليمين الكاذبة وكل هذه من المحظورات التي وردت الأخبار النبوية ببيانها والنهي عن تورد مكانها فمن عرف ما اقترف فأذقه حر التأديب قبل أن يذاق غدا حر التعذيب وأعلمه أن الأرزاق بيد الله تعالى لا ينقصها عجز القاعد ولا يزيدها حرص الكادح وقد ينقلب الجاهد فيها بصفقة الخاسر والوادع بصفقة الرابح ومن سنة الله تعالى أن ينمي الحلال وإن كان يسيرا ويمحق الحرام

وإن كان كثيرا ومن الناس من آتاه الله مالا فبث في الأسواق جنود ذهبه وورقه واحتكر ما

حمله الميزان من ذوات رطله ووسعه الكيل من ذوات وسقه فأصبح فقراء بلده في ضيق من

عدم الرفق ومدد الرزق فليمنع هؤلاء أن يجعلوا رزق الله محتكرا ومعاش عباده محتجرا

وليؤمروا بأن يتراحموا ولا يتزاحموا وأن يأخذ الغني منهم بقدر الكفاف ويترك للفقير ما يعينه

على الإسعاف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ‏"‏ لا حكرة في سوقنا لا يعمد رجال

بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من أرزاق الله تعالى ينزل بساحتنا فيحتكرونه علينا ولكن

أيما جالب جلب على عمود كبده فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء

الله ‏"‏ وأما التعسير فإنه وإن آثره القاطنون وحكم به القاسطون وقيل‏:‏ إن في ذلك للفقير تيسير

العسير فليس لأحد أن يكون يد الله في حفظ ما رفع وبذل ما منع فقف أنت حيث أوقفك

حكم الحق ودع ما يعن من مصلحة الخلق ولا تكن ممن اتبع الرأي والنظر وترك الآية والخبر

فحكمة الله مطوية فيما يأمر به على ألسنة رسله وليست مما يستنبطه ذو العلم بعلمه ولا

يستدل عليه ذو العقل بعقله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏.‏

ومما نأمرك به أن تمحو الصغيرة كما تمحو الكبيرة فإن لمم الذنوب كالقطر يصير مجتمعه سيلا متدفقا وكان أوله قطرا متفرقا‏.‏

وقد استمر في الناس عوائد تهاونوا باستمرارها ولم ينظروا إلى ثقل أوزارها فمن ذلك لبس

الذهب والحرير الذي لم يلبسه إلا من عدم عند الله خلاقا وإن قيل إنه شعار للغني فلم يزد

صاحبه من الحسنات إلا إملاقا وللبس عباءة مع التقوى أحسن في العيون شعارا وأعظم في

الصدور وقارا ويلتحق بهذه المعصية صوغ الذهب والفضة آنية يمنع منها حق الصدقات وهو

حق يقاتل مانعه ويعصى في استعمالها أمر الله وهو حد من حدوده يعاقب عاصيه ويثاب

طائعه وكذلك يجري الحكم في الصور المرقومة في البيوت والثياب وعلى الستور المغلقة على

الأبواب وإخراجها في ضروب أشكال الحيوان لملاعبة الصبيان وذلك مماثلة لخلق الله في التقدير ولهذا يؤمر صانعه بنفخ الروح فيما صوره من التصوير‏.‏

ومما يغلظ نكيره إطالة الذيول للاجترار والمباهاة لما فيها من عنجهية التيه والاستكبار ولن

يخرق صاحبها الأرض بإعجابه ولا يبلغ الجبال بإطالة ثيابه قال النبي ‏)‏‏"‏ إن الله لا ينظر إلى

من جر ثوبه خيلاء ‏"‏‏.‏

ومما هو أشد نكيرا أمر الحمامات فإن الناس قد أصروا بها على الإجهار وترك الاستتار

والتهاون بأمر العورات التي لصاحبها اللعنة وله سوء الدار والنساء في هذا المقام أشد تهالكا

من الرجال وقد ابتذلن أنفسهن حتى أفرطن في فاحشة الابتذال ولهن محدثات من المنكر

أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف وقد أحدثن

الآن من الملابس ما لا يخطر للشيطان في حساب وتلك من لباس الشهرة الذي لا يستر منه

إسبال مرط ولا إدناء جلباب ومن جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثال الأسنمة ويخرجن من

جهارة أشكالها في الصور المعلمة وقد أخبر رسول الله ‏)‏بها فيما ورد عنه من الأخبار

وجعل صاحبها معدودا من زمرة أصحاب النار‏.‏

ومما حيد به عن السنن قرآة القرآن بضروب الألحان وتلك قراءة تخرج حروفها من غير مخرج وتبدو معوجة وهو قرآن عربي غير ذي عوج وقد أمر الله بترتيله وإيراده على هيئة تنزيله فمن قرأه بالترجيع والترديد وزلزل حروفه بالتمطيط والتمديد فقد ألحقه بدرجات الأغاني وذهب

بما فيه من طلاوة الألفاظ والمعاني قال النبي ‏)‏‏"‏ اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم

ولحون أهل الفسق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ‏"‏ ويلتحق بذلك اقتناء القينات المغنيات اللاتي يلعبن بالعقول لعبهن بالأسماع ويغنين الشياطين بغنائهن عن بث الجنود والأشياع وفتيا النفس الأمارة في ذلك أن تقول‏:‏ هؤلاء إماء يحل نغمة سماعهن كما يحل ما تحت قناعهن وقد علم أن لكل شيء نماما وقد ينقلب فيصير حراما ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه قال النبي ‏)‏‏:‏ ‏"‏ لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشترهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ‏"‏ وفي مثل هذا أنزلت ‏"‏ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ‏"‏ وكذلك يجري الحكم في المواشط اللاتي يجعلن الحسن موفورا والقبح مستورا ويخدعن الناظر حتى يجعلنه مسحورا فهن يبدين صدقا من كذب وجدا من لعب وفعلهن من الغش الذي نهى رسول الله ‏)‏عنه وقال‏:‏ إنه ليس منه وقد لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة ومن غش المنكرات أيضاً خضاب الشيب الذي يخالف فيه الظاهر الباطن ويتخلق صاحبه بخلق الكاذب الخائن وهب أنه أخفى لون شعره وهل يخفي أخلاق لباسه وإذا استسن ملائم المرء فلا يغنيه سواد عارضه ولا سواد رأسه وقد جعل الله الشيب من نعمه المبشرة بطول

الأعمار وسماه نورا للونه وهدايته ولا تستوي الظلمات والأنوار قال النبي ‏)‏الشيب أن يشتغل

بتغيير صيغة الكتاب ويدأب في محو سواد العقاب ببياض الثواب ففي بقية عمره مندوحة

لادخار ما يحمد ذخره وتبديل ما تقدم سطره‏.‏

ومما خولفت فيه السنة عقد مجالس التعازي لحضور الناس وإظهار شعار الأسود والأزرق

من اللباس والتشبيه بالجاهلية في النوح والندب ومجاوزة دمع العين وخشوع القلب إلى الإعلان

بإسخاط الرب وقد تواطأ النساء على ضرب الخيام على القبور وجعل الأعياد مواسم

لاجتماع الزائر والمزور فصارت المآتم بينهم ولائم والمنادب عندهم مآدب وربما نشأ من ذلك

ما يغض طرفا ويجدع أنفا ويوجب حدا وقذفا‏.‏

وهكذا أهمل أمر الإسلام في تشبيه أهل الذمة بأهله وما كانوا ليشابهوه في زي غرته ويخالفوه

في سلوك سبله ولا بد من الغيار بأن يشد النصراني عقدة زناره ويصفر اليهودي على إزاره

وليمنعوا من الظاهر بطغيان النعمة وعلو الهمة ويؤمروا بالوقوف عند ما حكم عليهم من

الأحكام وأخذوا فيه بالاختفاء والاكتتام فخمورهم تستر وشعائر دينهم لا تظهر وموتاهم

تقبر بالخمول قبل أن تقبر فلا يوقد خلف ميتهم مصباح ولا يتبع بندب ولا صياح‏.‏

ومما عرف الناس منكره إثارة التحريش بين الحيوانات وهي ذوات أكباد رطبة وأخلاق صعبة

وما منها إلا ما يحل أكله ولا يحل قتله كالكبش والحجلة والديك والسماني وما أشبهها وقد

أكثر الناس من اقتنائها والمواظبة على إضرام شحنائها ولربما نشأ من ذلك فتنة تؤل إلى ضراب وشق ثياب وإحداث شجاج وإثارة عجاج وتحزب إلى أحزاب كثيرة وأفواج‏.‏

ويتصل بهذه المنكرات المذكورة أشياء أخرى تجري مجراها في التقديم وتتنزل منزلتها في

التحريم فاحكم فيها بحكمك وامض في شبهاتها بدليل علمك ونب عنا في التذكير والتحذير

والتعريف والتنكير حتى يتقود الأود ويتضح الرشد ويمكث في الأرض ما ينفع ويذهب الزبد

وليكن عملك لله الذي يسمع ويرى وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى‏.‏

واعلم أن الأمر بالمعروف عبادة يتعدى نفع صاحبها إلى غيره وتستضيف خير المأمور بها إلى

خيره وهي الجهاد الأكبر الذي تقاتل فيه عواصي النفوس وتضرب به رءوس الشهوات التي هي

أمنع من معاقد الرءوس فقتيله يحيا بقتله وجريحه يوسي بجراحة نصله وبمثل هذا الجهاد

تستنزل أمداد النعم مضعفة كما تستنزل أمداد النصر مردفة فأقدم عليه ذا عزم باتر وطرف

ساهر وقدم ثابت صابر حتى تظل لمعاقل الشيطان فاتحا وتكون فيمن دعا إلى الله وعمل

صالحا‏.‏

واعلم أنك في صبيحة كل يوم يبتدرك الملك والشيطان وكل منهما يقول‏:‏ يأيها الإنسان فإن

أجبت نداء الملك كتبك في زمرة من مهد لجنبه وخاف مقام ربه وعرج بك إلى الله طيبا

نشره مضاعفا أجره وإن أجبت نداء الشيطان كتبك في زمرة من أغواه وقرنك بمن أغفل الله

قلبه واتبع هواه ثم نزل به إلى الأرض خبيثا مخثبا وأقبل به على إخوانه من الشياطين محدثا‏.‏

وهذا آخر ما عهدناه إليك من العهد الذي طوقت اليوم بكتابه وستناقش غدا على حسابه

وكما جعلناه لك في الدنيا ذكرا فاجعله لك في الآخرة ذخرا إن شاء الله تعالى والسلام‏.‏

وهذا الذي ذكرته في هذين من الكتاب والتقليد يتضمن إطنابا مستوفى الأقسام ولولا خوف

الإطالة التي لا حاجة إليها لأوردت قصائد من الشعر أيضا حتى لا يخلو الموضع من ضرب

أمثلة من المنظوم والمنثور لكن في الذي ذكرته كفاية لمن يحمله على أشباهه ونظائره‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الإطناب في الكلام وضعتموه اسما على غير مسمى فإن الكلام لا يخلو من

حالتين‏:‏ إما ألا يزيد لفظه على معناه وهو التطويل وليس ههنا قسم ثالث فما الإطناب إذا

قلت في الجواب‏:‏ اعلم أن الإيجاز هو ضد التطويل كما أن السواد ضد البياض غير أن بين

الضدين مراتب ومنازل ليست أضدادا فالإطناب لا إيجاز هو ولا تطويل كما أن الحمرة أو

الخضرة ليست بياضا ولا سوادا وقد قدمنا القول أن الإطناب يأتي في الكلام مؤكدا كالذي

يأتي بزيادة التصوير للمعنى المقصود إما حقيقة وإما مجازا والتطويل ليس كذلك فإنه التعبير

عن المعنى بلفظ زائد عليه يفهم ذلك المعنى بدونه فإذا حذفت تلك الزيادة بقي المعنى المعبر

عنه على حاله لم يتغير منه شيء وهذا بخلاف الإطناب فإنه إذا حذفت منه تلك الزيادة

المؤكدة للمعنى تغير ذلك المعنى وزال ذلك التأكيد عنه وذهبت فائدة التصوير والتخييل التي

تفيد السامع ما لم يكن إلا بها ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ‏"‏ وهذا لا يسمى إيجازا لأنه أتى فيه بزيادة لفظ وهو ذكر الصدور وقد علم أن القلوب لا تكون إلا في الصدور ولا يسمى تطويلا لأن التطويل لا فائدة فيه أصلا وهذا فيه فائدة وهي ما أشرنا إليه وكذلك باقي أقسام الإطناب التي نبهناه عليها وهذا لا نزاع فيه‏.‏

  النوع السابع عشر في التكرير

قد تقدم الكلام في صدر كتابي هذا على تكرار الحروف وما أشبه ذلك مما يختلط بهذا النوع

الذي هو تكرار المعاني والألفاظ‏.‏

واعلم أن هذا النوع من مقاتل علم البيان وهو دقيق المأخذ

وحده هو‏:‏ دلالة اللفظ على المعنى مرددا وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرة

وبالتطويل أخرى وقد تقدم الكلام على الفرق بين هذه الأنواع الثلاثة في باب الإطناب فلا

حاجة إلى إعادته ههنا وأما التكرير فقد عرفتكه‏.‏

وهو ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى والآخر يوجد في المعنى دون اللفظ‏.‏

فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى فكقولك لمن تستدعيه أسرع أسرع ومنه قول أبي الطيب

المتنبي‏:‏

ولم أر مثل جيراني ومثلي لمثلي عند مثلهم مقام

وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك‏:‏ أطعني ولا تعصني فإن الأمر بالطاعة نهي عن

المعصية‏.‏

وكل من هذين القسمين ينقسم إلى مفيد وغير مفيد ولا أعني بالمفيد ههنا ما يعنيه النحاة فإنه

عندهم عبارة عن اللفظ المركب إما من الاسم مع الاسم بشرط أن يكون للأول بالثاني علاقة

معنى يسع مكلفا جهله وإما من الاسم مع الفعل التام المتصرف على هذا الشرط أيضا وإما

من حرف النداء مع الاسم فهذا هو المفيد عند النحاة وأنا لم أقصد ذلك ههنا بل مقصودي

من المفيد أن يأتي لمعنى وغير المفيد أن يأتي لغير معنى‏.‏

واعلم أن المفيد من التكرير يأتي في الكلام تأكيدا له وتشييدا من أمره وإنما يفعل ذلك للدلالة

على العناية بالشيء الذي كررت فيه كلامك إما مبالغة في مدحه أو في ذمه أو غير ذلك ولا

يأتي إلا في أحد طرفي الشيء المقصود بالذكر والوسط عار منه لأن أحد الطرفين هو المقصود

بالمبالغة إما بمدح أو ذم أو غيرهما والوسط ليس من شرط المبالغة وغير المفيد لا يأتي في

الكلام إلا عيا وخطلا من غير حاجة إليه‏.‏

التكرير في اللفظ والمعنى

فأما الأول وهو الذي يوجد في اللفظ والمعنى فإنه ينقسم إلى ضربين‏:‏ مفيد وغير مفيد‏.‏

فالأول المفيد وهو نوعان‏:‏ الأول‏:‏ إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد

والمقصود به غرضان مختلفان كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ‏"‏ هذا تكرير في اللفظ والمعنى وهو قوله‏:‏ ‏"‏ يحق الحق ‏"‏ و ‏"‏ ليحق

الحق ‏"‏ إنما جيء به ههنا لاختلاف المراد وذاك أن الأول تمييز بين الإرادتين ‏,‏ والثاني بيان لغرضه

فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها وأنه ما نصرهم وخذل أولئك إلا لهذا الغرض‏.‏

ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول

المسلمين‏.‏

قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏.‏

قل الله أعبد مخلصا له ديني

فاعبدوا ما شئتم من دونه ‏"‏ فكرر قوله تعالى ‏"‏ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ‏"‏

وقوله ‏"‏ قل الله أعبد مخلصا له ديني ‏"‏ والمراد به غرضان مختلفان وذلك أن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة والإخلاص في دينه والثاني بأنه يخص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة في الثاني وأخره في الأول لأن الكلام

أولاً وقع في الفعل نفسه وإيجاده وثانيا فيمن يفعل من أجله ولذلك رتب عليه ‏"‏ فاعبدوا ما

شئتم من دونه ‏"‏‏.‏

وعليه ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ‏"‏ وظاهر الأول

والثاني أنهما سواء في المعنى وليس كذلك لأن الثاني فيه تخصيص غير موجود في الأول ألا

ترى أنا إذا قلنا‏:‏ زيد الأفضل وقلنا‏:‏ الأفضل زيد كان في الثاني تخصيص له بالفضل وهذا

التخصيص لا يوجد في القول الأول الذي هو زيد الأفضل ويجوز أن تبدل صفة الفضل فيه

بغيرها أو بضدها فيقال‏:‏ زيد الأجمل أو زيد الأنقص وإذا قلنا‏:‏ الأفضل زيد وجب تخصيصه

بالفضل ولم يمكن تغييره عنه وكذلك يجري الحكم في هذه الآية فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ‏"‏ ثم قال ‏"‏ لم يذهبوا حتى يستأذنوه ‏"‏ فوصفهم بالامتناع عن الذهاب إلا بإذنه وهذه الصفة يجوز أن تبدل بغيرها من الصفات كما قال تعالى في موضع آخر‏:‏ ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ‏"‏ فجاء بصفة غير تلك الصفة ولما قال‏:‏ ‏"‏ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ‏"‏ وجب تخصيصهم بذلك الوصف دون غيره وهذا موضع حسن في تكرير المعاني‏.‏

ومما يعد من هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون‏.‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد‏.‏ ولا أنا عابد ما عبدتم‏.‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد‏.‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد‏.‏

لكم دينكم ولي دين ‏"‏ وقد ظن قوم أن هذه الآية تكرير لا فائدة فيه وليس الأمر كذلك فإن معنى

قوله‏:‏ ‏"‏ لا أعبد ‏"‏ يعني في المستقبل‏:‏ من عبادة آلهتكم وإلا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من

عبادة إلهي ‏"‏ ولا أنا عابد ما عبدتم ‏"‏ أي وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه يعني أنه

لم يعهد مني عبادة صنع في الجاهلية في وقت ما فكيف يرجى ذلك مني في الإسلام ‏"‏ ولا أنتم

عابدون ‏"‏ في الماضي في وقت ما ما أنا على عبادته الآن‏.‏

ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ‏"‏ فكرر ‏"‏ الرحمن الرحيم ‏"‏ مرتين والفائدة في ذلك أن الأول يتعلق بأمر الدنيا والثاني يتعلق بأمر الآخرة فما يتعلق بأمر الدنيا يرجع إلى خلق العالمين في كونه خلق كلا منهم على أكمل صفة وأعطاه جميع ما يحتاج إليه حتى البقة والذباب وقد يرجع إلى غير الخلق كإدرار الأرزاق وغيرها وأما ما يتعلق بأمر الآخرة فهو إشارة إلى الرحمة الثانية في يوم القيامة الذي هو يوم الدين‏.‏

وبالجملة فاعلم أنه ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره فإن رأيت شيئا منه تكرر من

حيث الظاهر فأنعم نظرك فيه فانظر إلى سوابقه ولواحقه لتنكشف لك الفائدة منه‏.‏

ومما ورد في القرآن الكريم مكررا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ‏"‏ فكرر قوله‏:‏ ‏"‏ فاتقوا الله وأطيعون ‏"‏ ليؤكده عندهم ويقرره في نفوسهم مع تعليق كل واحد منهما لعلة فجعل الأول كونه أمينا فيما بينهم وجعل علة الثاني حسم طمعه عنهم وخلوه من الإعراض فيما يدعوهم إليه‏.‏

من هذا النحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ‏"‏ وإنما كرر تكذيبهم ههنا لأنه لم يأت به على أسلوب واحد بل تنوع فيه بضروب من الصنعة فذ كره أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه والتنوع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً وبالاستثناء ثانياً وما في الاستثناء من الوضع على وجه

التوكيد والتخصيص المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق العذاب وأبلغه‏.‏

وهذا باب من تكرير اللفظ والمعنى حسن غامض وبه تعريف موقع التكرير والفرق بينه وبين

غيره فافهمه إن شاء الله تعالى‏.‏

الفرع الثاني من الضرب الأول‏:‏ إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد والمراد به غرض واحد كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ‏"‏ والتكرير دلالة على التعجب من تقديره وإصابته الغرض وهذا كما يقال‏:‏

ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي

وهذا مبالغة في الدعاء لها بالسلامة وكل هذا يجاء به لتقرير المعنى المراد وإثباته‏.‏

وعليه ورد الحديث النبوي وذاك أن النبي ‏)‏قال‏:‏ ‏"‏ إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يطلق علي ابنتي وينكح ابنتهم ‏"‏ فقوله‏:‏ ‏"‏ لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن ‏"‏ من التكرير الذي هو أشد موقعا من الإيجاز لانصباب العناية إلى تأكيد القول في منع علي رضي الله عنه من التزوج بابنة أبي جهل بن هشام‏.‏ وهذا مثل قوله تعالى ‏"‏ أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ‏"‏ ومن أجل ذلك نقول‏:‏ لا إله إلا الله وحده

لا شريك له لأن قولنا‏:‏ لا إله إلا الله ‏"‏ مثل قولنا ‏"‏ وحده لا شريك له ‏"‏ وهما في المعنى سواء وإنما كررنا القول فيه لتقرير المعنى وإثباته وذاك لأن من الناس من يخالف فيه كالنصارى والثنوية والتكرير في مثل هذا المقام أبلغ من الإيجاز وأحسن وأسد موقعا‏.‏

ومما جاء في مثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا ترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون‏.‏

وإن كانوا من قبله لمبلسين ‏"‏ فقوله‏:‏ ‏"‏ من قبله ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ من قبل ‏"‏ فيه دلالة على أن

عهدهم بالمطر قد ببعد وتطاول فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على

قدر اغتمامهم بذلك‏.‏

وعلى ذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ‏"‏ فقوله‏:‏ ‏"‏ لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ‏"‏ يقوم مقام قوله‏:‏ ‏"‏ ولا يدينون دين الحق ‏"‏ لأن من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا يدين دين الحق وإنما كرر ههنا للخطب على المأمور بقتالهم والتسجيل عليهم بالذم ورجمهم بالعظائم ليكون ذلك أدعى لوجوب قتالهم وحربهم وقد قلنا‏:‏ إن التكرير إنما يأتي لما أهم من الأمر الذي بصرف العناية إليه يثبت ويقرر‏.‏

كذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك

الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏"‏ فتكرير

لفظه ‏"‏ أولئك ‏"‏ من هذا الباب الذي أشرنا إليه لمكان شدة النكير وإغلاظ العقاب بسبب

إنكارهم البعث‏.‏

وعلى هذا ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ‏"‏ فإنه

إنما تكررت لفظة ‏"‏ هم ‏"‏ للإيذان بتحقيق الخسار والأصل فيها وهم في الآخرة الأخسرون لكن لما أريد تأكيد ذلك جيء بتكرير هذه اللفظة المشار إليها‏.‏ كذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ‏"‏ أمثال هذا في القرآن كثير‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏"‏ فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي

استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو

عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ‏"‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلما أن أراد أن

يبطش ‏"‏ بتكرير أن مرتين دليل على أن موسى عليه السلام لم تكن مسارعته إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته إلى قتل الأول بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه فعبر القرآن عن ذلك بقوله وجرت بيني وبين رجل من النحويين مفاوضة في هذه الآية فقال إن أن الأولى زائدة ولو حذفت فقيل لما أراد أن يبطش لكان المعنى سواء ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلما أن جاءه البشير ألقاه

على وجهه ‏"‏ وقد اتفق النحاة على أن أن الواردة بعد لما وقبل الفعل زائدة فقلت له‏:‏ النحاة لا

فتيا لهم في مواقع الفصاحة والبلاغة ولا عندهم معرفة بأسرارهما من حيث إنهم نحاة ولا

شك أنهم وجدوا أن ترد بعد لما وقبل الفعل في القرآن الكريم وفي كلام فصحاء العرب فظنوا أن المعنى بوجودها كالمعنى إذا سقطت فقالوا‏:‏ هذه زائدة وليس الأمر كذلك بل إذا وردت لما

وورد الفعل بعدها بإسقاط أن دل ذلك على الفور وإذا لم تسقط لم يدلنا ذلك على أن الفعل

كان على الفور وإنما كان فيه تراخ وإبطاء‏.‏

وبيان ذلك وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أني أقول‏:‏ فائدة وضع الألفاظ أن تكون أدلة على المعاني فإذا أوردت لفظة من

الألفاظ في كلام مشهود له بالفصاحة والبلاغة فالأولى أن تحمل تلك اللفظة على معنى فإن لم

يوجد لها معنى بعد التنقيب والتنقير والبحث الطويل قيل‏:‏ هذه زائدة دخولها على الكلام

كخروجها منه ولما نظرت أنا في هذه الآية وجدت لفظة ‏"‏ أن ‏"‏ الواردة بعد ‏"‏ لما ‏"‏ وقبل الفعل دالة على معنى فكيف يسوغ أن يقال‏:‏ إنها زائدة‏.‏

قلت في الجواب‏:‏ إذا ثبت أنها دالة على معنى فالذي أشرت إليه معنى مناسب واقع في موقعه

وإذا كان مناسبا واقعا في موقعه فقد حصل المراد منه ودل الدليل حينئذ أنها ليست زائدة‏.‏

الوجه الآخر‏:‏ أن هذه اللفظة لو كانت زائدة لكان ذلك قدحا في كلام الله تعالى وذاك أنه يكون

قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجة إليها والمعنى يتم بدونها وحينئذ لا يكون كلامه معجزا إذ

من شرط الإعجاز عدم التطويل الذي لا حاجة إليه وإن التطويل عيب في الكلام فكيف

يكون ما هو عيب في الكلام من باب الإعجاز هذا محال‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلما أن جاءه البشير ألقاه على وجهه ‏"‏ فإنه إذا نظر في قصة يوسف عليه

السلام مع إخوته منذ ألقوه في الجب وإلى أن جاء البشير إلى أبيه عليه السلام وجد أنه كان ثم

إبطاء بعيد وقد اختلف في طول تلك المدة ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول لما جيء

بأن بعد لما وقبل الفعل بل كانت تكون الآية فلما جاء البشير ألقاه على وجهه‏.‏

وهذه دقائق ورموز لا تؤخذ من النحاة لأنها ليست من شأنهم‏.‏

واعلم أن من هذا النوع قسما يكون المعنى فيه مضافا إلى نفسه مع اختلاف اللفظ وذلك يأتي

في الألفاظ المترادفة وقد ورد في القرآن الكريم واستعمل في فصيح الكلام‏.‏

فمنه قوله تعالى ‏"‏ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ‏"‏ والرجز هو

وعليه ورد قول أبي تمام‏:‏

نهوض بثقل العبء مضطلع به وإن عظمت فيه الخطوب وجلت

والثقل هو العبء والعبء‏:‏ هو الثقل وكذلك ورد قول البحتري‏:‏

ويوم تثنت للوداع وسلمت بعينين موصول بلحظهما السحر

توهمتها ألوى بأجفانها الكرى كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر

فإن الكرى هو النوم‏.‏ وربما أشكل هذا الموضع على كثير من متعاطي هذه الصناعة وظنوه مما لا فائدة فيه وليس كذلك بل الفائدة فيه هي التأكيد للمعنى المقصود والمبالغة فيه‏.‏

أما الآية فالمراد بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ عذاب من رجز ‏"‏ أي‏:‏ عذاب مضاعف من عذاب‏.‏

ط

وأما بيت أبي تمام تضمن المبالغة في وصف الممدوح بحمله للأثقال‏.‏

وأما بيت البحتري فإنه أراد أن يشبه طرفها لفتوره بالنائم فكرر المعنى فيه على طريق

المضاف والمضاف إليه تأكيدا له وزيادة في بيانه‏.‏

وهذا الموضع لم ينبه عليه أحد سواي‏.‏

ولربما أدخل في التكوير من هذا النوع ما ليس منه وهو موضع لي ينبه عليه أيضاً أحد سواي‏.‏

فمنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ‏"‏ فلما تكرر ‏"‏ إن ربك ‏"‏ مرتين علم أن ذلك أدل على المغفرة‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك

من بعدها لغفور رحيم ‏"‏

ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ‏"‏

وهذه الآيات يظن أنها من باب التكرير وليست كذلك وقد أنعمت نظري فيها فرأيتها خارجة

عن حكم التكرير وذاك أنه طال الفصل من الكلام وكان أوله يفتقر إلى تمام لا يفهم إلا به

فالأولى من باب الفصاحة أن يعاد لفظ الأول مرة ثانية ليكون مقارنا لتمام الفصل كي لا يجيء

الكلام منثورا لا سيما في إن وأخواتها فإذا وردت إن وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة

من الكلام فإعادة إن أحسن في حكم البلاغة والفصاحة كالذي تقدم من هذه الأبيات‏.‏

وعليه ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة‏:‏

أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة ونأي حبيب إن ذا لعظيم

وإن امرأ دامت مواثيق عهده على مثل هذا إنه لكريم

فإنه لما طال الكلام بين اسم إن وخبرها أعيدت إن مرة ثانية لأن تقدير الكلام وإن آمرا دامت

مواثيق عهده على مثل هذا لكريم لكن بين الاسم والخبر مدى طويل فإذا لم تعد إن مرة ثانية لم

يأت على الكلام بهجة ورونق وهذا لا ينتبه لاستعماله إلا الفصحاء إما طبعا وإما علما‏.‏

وكذلك يجري الأمر إذا كان خبر إن عاملا في معمول يطول ذكره فإن إعادة الخبر ثانية هو

الأحسن‏.‏

وعلى هذا جاء قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني

رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ‏"‏ فلما قال‏:‏ ‏"‏ إني رأيت ‏"‏ ثم طال

الفصل كان الأحسن أن يعيد الرؤية فيقول ‏"‏ رأيتهم لي ساجدين ‏"‏

وكذلك جاءت الآية المذكورة ههنا قبل هذه وهي قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا‏"‏

فإنه لما طال الفصل أعاد قوله ‏"‏ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ‏"‏ فاعلم ذلك وضع يدك عليه

وكذلك الآية التي قبلها وهي قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ‏"‏

وكذلك الآية الأخرى وهي‏:‏ ‏"‏ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ‏"‏

ومن باب التكرير في اللفظ والمعنى الدال على معنى واحد قوله تعالى ‏"‏ وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ‏"‏ فإنه

إنما كرر نداء قومه ههنا لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة ولأنهم قومه وعشيرته وهم

فيما يوبقهم من الضلال وهو يعلم وجه خلاصهم ونصيحتهم عليه واجبة فهو يتحزن لهم

ويتلطف بهم ويستدعي بذلك ألا يتهموه فإن سرورهم سروره وغمهم غمه وأن ينزلوا على

نصيحته لهم وهذا التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز وأسد موقعا من الاختصار فاعرفه إن

شاء الله تعالى‏.‏

وعلى نحو منه جاء قوله تعالى في سورة القمر‏:‏ فذوقوا عذابي ونذر‏.‏

ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ‏"‏ فإنه قد تكرر ذلك في السورة كثيرا وفائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من الأولين ادكارا وإيقاظا وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث إليه

وأن تقرع لهم العصا مرات لئلا يغلبهم السهو وتستولي عليهم الغفلة‏.‏

وهكذا حكم التكرير في قوله تعالى في سورة الرحمن‏:‏ ‏"‏ فبآي آلاء ربكما تكذبان ‏"‏ وذلك عند كل نعمة عددها على عباده‏.‏ أمثال هذا في القرآن الكريم كثير‏.‏

ومما ورد من هذا النوع شعرا أقوال بعض شعراء الحماسة‏:‏

إلى معدن العز المؤثل والندى هناك هناك الفضل والخلق الجزل

فقوله‏:‏ ‏"‏ هناك هناك ‏"‏ من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز لأنه في معرض مدح فهو يقرر في نفس السامع ما عند الممدوح من هذه الأوصاف المذكورة مشيرا إليها كأنه قال‏:‏ أدلكم على

معدن كذا وكذا ومقره ومفاده‏.‏ وكذلك ورد قول المساور بن هند‏:‏

جزى الله عني غالبا من عشيرة إذا حدثان الدهر نابت نوائبه

فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت علي وموج قد علتني غواربه

فصدر البيت الثاني وعجزه يدلان على معنى واحد لأن تلاحم الكرب عليه كتعالي الموج من

فوقه وإنما سوغ ذلك لأنه مقام مدح وإطراء ألا ترى أنه يصف إحسان هؤلاء القوم عند دثان

دهره في التكرير وفي قبالته لو كان القائل هاجيا فإن الهجاء في هذا كالمدح والتكرير إنما

يحسن في كلا الطرفين لا في الوسط‏.‏

واعلم أنه إذا وردت ‏"‏ إن ‏"‏ المكسورة المخففة بعد ‏"‏ ما ‏"‏ كانت بمعناها سواء ألا ترى إلى قوله

تعالى‏:‏ ‏"‏ إن هم إلا كالأنعام ‏"‏ فإن وما بمعنى واحد وإذا أوردت من بعد ما كانت من باب

التكرير كقولنا‏:‏ ما إن يكون كذا وكذا‏:‏ أي ما يكونه كذا وكذا وإذا وردت في الكلام فإنما ترد في مثل ما أشرنا إليه من التكرير فإن استعملت في غير ما يكون منها لفائدة ينتجها تكريرها كان وقد زعم قوم من مدعي هذه الصناعة أن أبا الطيب المتنبي أتى في هذا البيت بتكرير لا

حاجة به إليه وهو قوله‏:‏

العارض الهتن ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن وليس في هذا البيت من تكرير فإنه كقولك الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا

أي أنه عريق النسب في هذا الوصف‏.‏

وقد ورد في الحديث النبوي مثل ذلك كقول النبي ‏)‏في وصف يوسف الصديق عليه السلام ‏"‏

الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ‏"‏

ولقد فاوضني في هذا البيت المشار إليه بعض علماء الأدب وأخذ الطعن فيه من جهة

تكراره فوقفته على مواضع الصواب منه وعرفته أنه كالخبر النبوي من جهة المعنى سواء

بسواء لكن لفظه ليس بمرضي على هذا الوجه الذي قد استعمل فيه فإن الألفاظ إذا كانت

حسانا في حال انفرادها فإن استعمالها في حال التركيب يزيدها حسنا على حسنها أو يذهب

ذلك الحسن عنها وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى من الصناعة اللفظية ولو تهيأ

لأبي الطيب المتنبي أن يبدل لفظة العارض بلفظة السحاب أو ما يجري مجراها لكان أحسن

وكذلك لفظة الهتن فإنها ليست بمرضية في هذا الموضع على هذا الوجه ولفظة العارض وإن

كانت قد وردت في القرآن الكريم وهي لفظة حسنة فالفرق بين ورودها في القرآن الكريم

ووردوها في هذا البيت الشعري ظاهر وقد تقدم الكلام على مثلها من آية وبيت لأبي الطيب

أيضا وهو في المقالة اللفظية عند الكلام على الألفاظ المفردة فليؤخذ من هناك وكثيرا ما يقع

الجهال في مثل هذه المواضع وهم الذين قيل فيهم‏:‏

وكذا كل أخي خذلقة ما مشى في يابس إلا زلق

فترى أحدهم قد جمع نفسه وظن على جهله أنه عالم فيسرع في وصف كلام بالإيجاز وكلام

بالتطويل أو بالتكرير وإذا طولب بأن يبدي سببا لما ذكره لم يوجد عنده من القول شيء إلا

تحكما محضا صادرا عن جهل محض‏.‏